فصول من تاريخ يهود كردستان تأليف : د . فرست مرعي |
فصول من تاريخ يهود كردستان تأليف : د . فرست مرعي
يعتبر الكتاب اضافة هامة للمكتبة الكردية والعربية على السواء . ويدور حول حقبة تأريخية طويلة عاشها اليهود في العراق .
ولكن الدراسة تركز على العلاقات التي تربط اليهود بالاكراد في كردستان العراق ، انها حقبة زمنية طويلة تمتد من السبي البابلي المتكرر وحتى اليوم ، حقبة تعايش فيها اليهود مع محيطهم القسري بطبقاته وفئاته المختلفة . انه يتحدث عن يهود الريف ويهود المدن ، الأثرياء منهم والفقراء والذين تعاملوا مع رجال القبائل والمشايخ والاغوات . وتأرجحت العلاقات بينهم من جيدة الى سيئة ، الى سلب ونهب وقتل ، الى رعاية وحماية . وكل ذلك وفقا للظرف المعنی ، للبيئة والمناخ السياسي العام الذي كان يغلف الحياة العراقية في جميع انحاء العراق في تلك الحقبة الزمنية . ولكن كل ذلك يخضع في ذات الوقت لنفوذ القبيلة واعرافها ، لضعف او قوة الاغوات ، لقوة أو ضعف ذلك الشيخ او ذاك .. الى جانب أنها كانت فترة الاحتلال العثماني والانكليزي ، ومن الظروف السياسية والاجتماعية التي أعقبت خروج العثمانيين من العراق وتوحيد العراق وتكوین دولته الحديثة . ولكنها كانت في بدايتها عرضة للهزات والانقلابات وعدم الاستقرار السياسي . كل تلك المناخات خيمت على الشعب العراقي كله وليس فقط على الأكراد ، واليهود الذين يعيشون في كنفهم ولاتختلف كثيرة العلاقات الكردية اليهودية عن العلاقات العربية - اليهودية .
صدر للاكاديمي والباحث الاسرائيلي (مردخاي زاكن) كتاب بعنوان (يهود كردستان ورؤسائهم القبليون)، ترجمة الدكتورة (سعاد محمد خضر)، ومراجعة الدكتور (عبدالفتاح علي يحيى)، والدكتور (فرست مرعي إسماعيل).
والكتاب يتكون من 497 صفحة، من منشورات (مؤسسة زين) لإحياء التراث الوثائقي والصحفي الكردي في (السليمانية)،. يتألف الكتاب من مقدمة المترجمة، ومقدمة المؤلف، واستهلال بمثابة تمهيد، يضم بين ثناياه: خلفية تاريخية، الأرض والناس، وضع اليهود في القرون الماضية، فضلاً عن أربعة أجزاء، وملاحظات ختامية، ومقابلات(ميدانية) غير منشورة مع (61) شخصية، من يهود كردستان، الطاعنين في السن، الذين هاجروا من كردستان إلى فلسطين، ومقابلات شفهية غير منشورة مع الكرد اليهود، محفوظة في قسم التاريخ الشفاهي في (معهد الدراسات العبرية)، في الجامعة العبرية في القدس(=أورشليم).
يتكون الجزء الأول من خمسة فصول، يتعلق الفصل الأول بـ(يهود زاخو)، وعلاقتهم بـ(أسرة شمدين)، وغيرها من أسر أغوات المنطقة. والثاني حول (يهود عقرة)، والثالث حول علاقة (يهود دهوك) بأسر الأغوات والشيوخ، والرابع بعلاقة اليهود بأغوات وموظفي (العمادية)، والخامس بـتأسيس (مدينة السليمانية)، وفق رؤية يهودية، وعن علاقة أسرة الشيخ (محمود البرزنجي) باليهود، والسادس حول العلاقة القوية بين الزعيم الكردي (ملا مصطفى البارزاني) بيهود بلدة (شنو/أشنوية)، في كردستان إيران، أثناء أيام حكم جمهورية كردستان(مهاباد). فيما يضم الجزء الثاني فصلين فقط، يتعلق الفصل الأول بتجربة اليهود في ريف كردستان، من خلال تجربة قرية (صندور) اليهودية، كنموذج للتعايش اليهودي- الكردي، من خلال مدى حماية الأغوات ليهود قبائلهم، ومدى إخلاص اليهود لرؤسائهم تبعا للحماية، فضلاً عن التطرق إلى التجمعات اليهودية القبلية وغير القبلية.
بينما يؤلف الجزء الثالث: (بعض مظاهر الحياة اليومية والخاصة)، ثلاثة فصول، يتعلق الفصل الأول بأوضاع اليهود في كردستان، من حيث الأمان، وتداعياته، من حيث الهجرة، ومقتل اليهود في المشهد القبلي، تبعاً للثارات القبلية. وفي الفصل الثاني، توفر على الوضع الاقتصادي لليهود، ما قبل القرن العشرين، بجانب المهن الرئيسية لليهود. أما الفصل الثالث،
فخصص لاعتناق اليهود للإسلام، والأسباب الموجبة لذلك، والآليات التي اتخذها اليهود لإفشال التحول إلى عقيدة أخرى غير عقيدة التوراة، فضلا عن بيان دور الشيوخ (شيوخ الطرق الصوفية القادرية والنقشبندية)، وعلماء الدين الإسلامي(=الملالي)، والأغوات، في تلك العملية.
وفي الجزء الرابع والأخير، المتعلق بـ(آخر الأجيال في كردستان، ما بين الحرب العالمية الأولى، والهجرة إلى إسرائيل خلال سنوات 1948-1951م)، يتوفر على ثلاثة فصول: الأول يتعلق بالخبرة الحياتية اليومية، في سنوات الحرب العالمية الأولى، من خلال الهروب من الخدمة العسكرية، والهجرة بسبب العمل القسري، والسخرة، وشحة المؤن. والفصل الثاني، يتعلق بسنوات نهاية الحرب، وما تلاها. والثالث يتضمن علاقة اليهود بكل من الكرد والعرب، خلال سنوات 1941-1951م، من خلال آثار مذبحة الفرهود، التي لحقت بيهود بغداد، بعيد فشل ثورة (رشيد عالي الكيلاني)، ورفاقه الضباط الأربعة، في حزيران سنة 1941م، فضلا عن الآثار المترتبة على إعلان قيام دولة إسرائيل في 15مايس/أيار 1948م، وما تلاه من ملاحقة اليهود، وسجنهم، بتهمة العمالة للحركة الصهيونية، ولدولة إسرائيل، بجانب الضغوط الاقتصادية على اليهود، قبيل هجرتهم إلى فلسطين، من خلال شراء دورهم ومقتنياتهم بأثمان بخسة.
في استهلال الكتاب، أو التمهيد له، يذكر الكاتب ما نصه: ” لم يعد هناك وجود لكردستان المذكورة في كتابي هذا. هاجر الكرد اليهود إلى إسرائيل، كما هاجر كثيرون من الآثوريين المسيحيين إلى العديد من الدول الغربية، في حين يعيش الكرد المسلمون في خضم الجيشان والثورات والحروب التي غيرت خارطة كردستان”(1).
في الخلفية التاريخية تطرق الباحث إلى لفظة الكرد وكردستان، التي وردت في المصادر القديمة من السومرية والآشورية والإغريقية واللاتينية، وفي إشارته إلى المصادر الآرامية على أنها ذكرت (بيت الكرد وكردستان)، في إشارة إلى (بيث قوردايا)، ولكنه جانب الصواب في تطرق الكتاب المقدس، وبالتحديد( الإنجيل)، إلى (جبال آرارات) على أنها جبال الكرد وكردستان، والصحيح أن (التوراة) هي التي ذكرت الجبال المذكورة، ولكن تم تعريفها في ترجمة (أونكيلوس) الآرامية، في القرن الرابع الميلادي، على أنها (جبال الكرد وكردستان)، وعلى السياق نفسه قدم (التلمود)، في القرن السادس الميلادي، إشارات قليلة أخرى للكرد والكرديين.
وبشأن عدد اليهود الكرد، فإن (زاكن) يقدر عددهم، قبيل هجرتهم الجماعية إلى فلسطين (إسرائيل)، في الأعوام (1951-1952م)، بحوالي خمسة وعشرين ألف نسمة، يتوزعون على مائتي قرية، والعديد من المدن والقصبات. وفي الوقت نفسه، كان هناك ما يقارب عشرون ألف نسمة، على الأكثر، من أصل كردي، يقيمون في إسرائيل (نقلاً عن كتاب الباحث
الهولندي مارتن فان بروينسن-الآغا والشيخ والدولة -1978م)، وغالبية هؤلاء اليهود قدموا من كردستان العراق، وكانوا متواجدين في مناطق: زاخو، دهوك، عمادية، زيبار، كما كانوا يقيمون في مناطق: كركوك، أربيل، السليمانية. ويركز كتابنا الحالي على اليهود الذين عاشوا شمال نهر الزاب الكبير، وشرق نهر دجلة، فضلا عن كرد السليمانية
اولاً: موقف اليهود من شيوخ وآغوات كردستان
في مسحه لخمسة مناطق كردية، وهي: زاخو، ودهوك، والعمادية، وشنو، والسليمانية، يتطرق (زاكن) – نقلا عن رواته من اليهود الذين يبلغ عددهم (61) – إلى أن هناك بعض الآغوات، وشيوخ الطرق الصوفية، وبعض علماء الدين، كانوا يضطهدون اليهود، ويعتدون عليهم، من ناحية أخذ أموالهم، واتخاذهم عمالاً للسخرة، على أساس أنهم كانوا أشبه بالعبيد لدى آغوات القبائل ، ويأتي بأمثلة مباشرة، مع ذكر الأسماء بكل دقة، في الوقت الذي يشيد بآخرين من تلك الطبقات، مع الإشارة إلى الأسماء، وتوقيت الحوادث.
ويسرد الباحث إحصاءات بعدد اليهود، اعتبارا من منتصف القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن العشرين، حيث زاد عدد يهود عقرة زيادة طفيفة، بدون ذكر السبب. ويبدو أن قيام حركات بارزان ضد الحكومة الملكية العراقية، في سنوات 1931-1932م، وسنوات 1943-1945م، بقيادة الشيخ (أحمد بارزاني) و(ملا مصطفى البارزاني)، جعلت الكثير من يهود بارزان، وقرى عشيرة الزيبار، يلتجئون إلى مدينة عقرة الاكثر أمناً واستقراراً.
بعدها يتطرق إلى ذكر أسرة يهودية مشهورة، خلال الثلاثة أجيال الماضية، وهي أسرة (الخواجه خينو)، التي كانت تترأس المجتمع اليهودي في (عقرة)، وكانت تقيم علاقات واسعة مع الآغوات والموظفين الرسميين، الذين اعتادوا على زيارة هذه الأسرة، وقضاء أوقات ممتعة معهم، لتناول الطعام والشراب، والاستماع إلى الموسيقى، مع توفير مساعدات مادية ومالية لرؤساء القبائل المحتاجين، في أوقات الشدة. وينقل عن مصدر ميداني، وهو(درويش ناحوم)، الذي كان يعمل كاتباً لدى (خواجه خينو)، قوله: ” اعتاد ضباط الشرطة والجيش زيارته، وكانوا يجلسون ويتناولون الطعام والشراب، ويستمعون إلى بعض الأغاني، التي تُشيع لديهم البهجة، ثم يغادرون “(2).
وبشأن العلاقة بين اليهود وشيوخ بارزان النقشبنديون، فإنه يشير إلى أن شيوخ بارزان يحظون باحترام فائق لدى الناس في كردستان، وينقل عن المنصر(المبشر) البريطاني الاسكتلندي (ويكرام)، في كتابه (الحياة في شرق كردستان)، قوله:” إن شيخ بارزان كان واحداً من أقوى الشخصيات القبلية في كردستان، وتحدث عن زيارة قام بها لبارزان، حيث قام حراسه بمرافقته، ورجاله، إلى قرية ( بيره كه برا) الزيبارية، حتى وصلنا إلى شواطي النهر(=الزاب)، وعندما ركبنا العبارة انتهت مهمتهم إلى هذا الحد. إنهم لن يرافقوننا عبر
النهر، لأنه يعود إلى أراضي شيخ بارزان، وأحست الحكومة(=العثمانية) ببعض الزهو، لتلك اللياقة التي أبداها بمرافقتهم عبر أراضيهم…”(3).
ومن جانب آخر، أكد زاكن أن مشيخة بارزان من أكثر مشايخ الصوفية نفوذاً واحتراماً في كردستان، وأصبحت قبيلة بارزان من أكبر القبائل ذات النفوذ التي لعبت دوراً هاماً في الحركة القومية الكردية(4).
وفي بدايات القرن القرن العشرين ينقل (زاكن) عن المبشر والقس البريطاني – الاسكتلندي( وليام ويكرام)(5) تأكيده على تواضع شيخ بارزان عبدالسلام الثاني (1882-1914م)، عندما قارنه بغيره من رؤساء القبائل، حتى الأقل قوة، قائلاً: ” إن أولئك الرؤساء، حتى الأقل سطوة، يعيشون في القصور”، في حين كانت منازله بين رجاله، ولا يتعدى مكان إقامته عدة منازل متجاورة، وكانت القرى في منطقة بارزان مزدهرة، والشيخ نفسه كان حكيماً، رحيماً، معروفاً بعدالته في التعامل مع أتباعه. وعندما نشب النزاع بينه وبين الحكومة، وأصبح فاراً في الجبال، قطف ثمار معاملته الطيبة لفلاحيه، لأنه لم يوجد إنسان واحد، مسلم أو مسيحي، يقوم بخيانته، ويسلمه لأعدائه”(6) .
ويواصل (ويكرام) إبداء تعاطفه مع شيخ بارزان، من خلال كرم الشيخ، وحبه للخير، ليس فقط تجاه أتباعه المسلمين، بل تجاه من لم يكن مسلما.
بعدها يغير الباحث مجرى الحديث، فينقل عن تقرير خاص بأخبار منطقة (العمادية)، صادر في دسمبر/كانون الأول عام 1913م، واستناداً إلى أقوال أحد المبشرين المحليين: ” قام الشيخ البارزاني (= عبدالسلام الثاني) بشن غارة على بضع قرى (=عشيرة نيروه)، ثلاث منها آشورية(= نسطورية)، وست كردية. وأعملوا فيها النهب والسلب، وقتل ستة من اليهود. وكانت تلك الغارة رداً على رفض رجال قبائل(نيروه – ريكان) مساعدته في هجوم تم التخطيط له على قبيلتي (جال) و(تخوما) الآثوريتين”(7).
ويطرح الباحث تساؤلاً:” ولكن لماذا قتل هؤلاء اليهود المساكين”، وينقل عن المبشر ناقل الخبر: “إنه شيء غير مفهوم”. بعدها يحاول الباحث تحليل هذا الخبر المفاجئ، لأن ذلك التقرير يثير الشكوك والمواقف الصادقة لشيوخ بارزان تجاه الكرد اليهود، ويحاول الإجابة قائلاً:” لأن مختلف التقارير، الصادرة من مصادر متنوعة، حول المعاملة الكريمة التي يبديها البارزانيون تجاه اليهود”(8).
وهذا ما يتناقض إلى حد كبير مع أساس العلاقات الجيدة بين اليهود وشيوخ بارزان، حيث يشير الكاتب بوضوح إلى ذلك من خلال قوله”: يبدو أن شيوخ النقشبندية، خاصة الشيخ أحمد، والملا مصطفى البارزاني، يرتبطون بعلاقة حسنة خاصة مع اليهود الكرد الذين يتمتعون
برعايتهم… وزيادة على ذلك يتحدث الرواة من يهود مناطق: شنو، ميركه سور، سركاني، وديانا، يتحدثون عن المواقف الإيجابية للبارزانيين تجاه اليهود”.